الرجل الذي لم يحمل اسما ( الجزء الثالث)

كانت أجراس الكنائس تقرع بشدة وكانت رناتها المدوية تزلزل جدران المكان، وبقدر ما كان قرعها يتواصل كانت غيبوبته تضمحل شيئا فشيئا ..وفجأة فتح عينيه.....مرت عليه لحظات من الذهول لم يدرك فيها بالضبط ما حوله ولكنه بعد برهة استطاع أن يرى نفسه ممددا فوق مضجع مجدول من القش ... فبقي ينظر إلى السقف ولم تند من حركة واحدة ....



كانت الرطوبة العطنة تملأ المكان وتزيد آلام رأسه حدة .. لقد كان المكان غارقا في عتمة تكاد تطبق على كل شيء لولا ضوء شاحب كان ينبعث من مكان ما من حجرة مجاورة .





كانت الحمى تنهش جسمه كله وأحس كأن وجهه قد أصبح متورما ..مد يده في حذر وتحسس أماكن الآلام المنبعثة منه ...لم تكن الجروح غائرة فأحس بنوع من الطمأنينة .... من الواضح أنها كانت بسبب شظايا القذيفة ... جلس مكانه ثم راح يتفحص المكان بعناية، كانت الأحجار التي بني بها المكان والسلاسل المتدلية من الجدار والقضبان الحديدية التي كانت تسد فتحة الباب تدل بوضوح على أنه مسجون في قلعة ما، ...لقد كانت الحجرة مبنية بكتل من الحجارة المتراصة تعلوها كوة صغيرة قريبة من السقف ..... وبما أن النور لم يكن يدخل منها فقد خمن أن الوقت كان ليلا.

**********





قرعت أجراس الكنائس احتفالا بصد جيوش المسلمين عن أسوار المدينة






أدرك بذكائه أن تلك الزنزانة لم تكن من النوع المخصص لعموم الأسرى، لقد كان وجوده منفردا فيها يوحي بأن النمساويين كانوا يدركون بالتأكيد أنه لم يكن محاربا عاديا لقد أدركوا ذلك من زيه العسكري على الأرجح .. بعثت تلك الفكرة في نفسه نوعا من الراحة وفكر بأن المهم بالنسبة إليه الآن أنه كان لا يزال حيا .. " إن البقاء حيا معناه أنك يمكن أن تجد حلا في مكان ما " هذا ما كان يؤمن به دائما .


**********





وفي لحظة ما عاودت أجراس الكنائس رناتها المشئومة، فانتفض ورفع عينيه نحو كوة الجدار، اعتصره ألم مفاجئ وأحس كأن ماء رقيقا يتحجر في عينيه الخدرتين، لقد خاض عدة معارك ضد الأوروبيين ليعلم ماذا يعني هذا القرع المتواصل للأجراس .. من الواضح أن النمساويين وحلفائهم يحتفلون الآن بصدهم لجيوش المسلمين عن أسوار مدينتهم .

انهار على سريره من جديد وحاول أن لا يفكر في المعركة التي لم يعرف بالضبط كيف حسمت نهايتها .

أغمض عينيه واجتهد أن يفكر في ما يشغله عن ذلك ولكنه فشل، بدا وكأن التفكير بعواقب تلك المعركة هو الفكرة الوحيدة التي قبلت مخيلته أن تتعامل معها، ...... فتح عينيه وأطبقهما مرارا وفي كل مرة كانت تقفز أمام عينيه صورة ميمنة الجيش التي انكسرت في لحظة داهمة وصورة ذلك الجندي الذي بلغه أوامر الانسحاب، تماما كما احتفظت بها ذاكرته في تلك الأوقات العصيبة، وأحيانا أخرى كانت يتشوش الترتيب بين الأحداث التي عاشها بمرارة، فتارة تتراقص أمام عينيه مطاردة البولونيين له وتارة أخرى كان يعيش لحظات القتال مع جنود فرقته تحت الأسوار، صور كانت تتوارد الواحدة خلف الأخرى في تسلسل حي، بل إن زخات الرصاص وهدير المدافع بقيت حية في رأسه حتى كاد يخيّل إليه أنها تنداح من داخل زنزانته نفسها ... كل طلقة تختلط بأنين الجرحى واحتضار القتلى وتتخللها ضحكات مسعورة يطلقها مراد كيراي وقوجا إبراهيم بطلي الخيانة التي عصفت بأحلام النصر ...





ربما كانت الحمى تزيد تلك الخيالات بشاعة، ولذلك امتنع أن يواصل التفكير بها لقد كان من طبعه أنه لا يحب التفكير في الأوضاع التي تدفع إلى اليأس، من أجل ذلك هزم آلامه وقواه الخائرة وكوابيسه المروعة ...وفضل أن يقوم من فراشه على الأقل حتى لا تجتاحه الحمى أكثر من ذلك ..انتصب قائما وأدهشه أن ذلك لم يسبب له ألما كبيرا، لقد فكر بأن من المذهل حقا أن القذيفة المروعة التي طرحته من ظهر جواده لم تبتر له عضوا واحدا ... لقد تلقى جواده النصيب الأكبر من المصير الفظيع الذي كان من الممكن أن يحل به ...


**********




حمد الله في سره على خروجه سالما من تلك المعركة ... ثم وكما يفعل أي مسجون في العالم خطا بضع خطوات نوع الباب الحديدي للزنزانة وتلمسه بحركة لاشعورية من يده، كما لو كان يريد أن يعرف قوته ومتانته، كان الباب غليظا من النوع الذي لا يمكن للمرء أن يعثر فيه على عيب يمكن استغلاله لفتحه بحيلة ما، بل حتى إن فتحة القفل نفسها كانت مغطاة بقطعة من المعدن، لقد أدى به إحكام الباب إلى التفكير في صعوبة تدبير هروب ما، عبرت هذه الفكرة في رأسه مثل ثلمة نصل حاد ولكن أعصابه بقيت هادئة...... لقد فكر بأن الوقت كان لا يزال مبكرا على هذه الفكرة فضلا على أنه كان يدرك أن الهرب يقتضي منه معرفة نظام الحراسة وعدد الجنود ومسالك القلعة، ولذلك فضل أن يتريث على الأقل حتى يسترد عافيته ..........وفجأة لمعت فكرة أخرى في رأسه .....








كان باب الزنزانة غليظا





إن المعارك دائما تنتهي دائما بأسرى عند هذا الطرف أو ذاك وبما أنه كان في زنزانة منفردة فقد خطر له أنه قد لن يكون بحاجة إلى الهروب أصلا، إذ من المحتمل أن يكون طرفا في صفقة يعقدها البولونيون أو الألمان مع السلطان خلال بضعة أيام، وقبل أن يتمادى بالتفكير في هذا الأمر سمع أصواتا في الردهة لأشخاص يتحدثون بحماس، .... كانت الأصوات تقترب شيئا فشيئا فارتد حذرا بضع خطوات إلى الخلف ثم سمع صرير مفتاح يدور في القفل وانفتح الباب بشكل خاطف ...... وفجأة انتصب أمامه ثلاثة رجال .